للذكريات مذاق جميل ممتع ذلك لأنها تعود بك إلى الوراء وتستوقفك في محطات لك فيها مواقف وحكايات وأصدقاء تأثرت بأخلاقهم وأفعالهم أو في مواهبهم وأنت لم ترهم
وغالبا ما تستنهض الذكرى كل المشاعر الجميلة وهي تصارع النسيان وتكون الغلبة لها دائما، وقلائل هم الذين ثبتوا وحفروا أسماءهم وأعمالهم في حشاشة الإنسان وإنتقلوا مع الناس ماداموا يتنفسون الهواء كذلك فإن قليلا هم الذين عرفوا من قبل الناس جميعا أو عرفتهم أغلب الناس في دائرتهم الواسعة التي عاشوا فيها وخلفوا أعمالا عظيمة كتبت لهم الخلود ومن هؤلاء العظماء الفنان الذي لم يغب في يوم من الأيام عن محبيه كان عبدالحليم حافظ من القلائل الذين يشدون لسانك بخيط وجداني ويجعلونك تنطق باللارادية معبرا عن فرحك وبهجتك حينما تسمع أغانيه
ولد عبدالحليم حافظ في مطلع العشرينيات من القرن الماضي وولدت معه موهبته النادرة التي أصبحت فيما بعد أعجوبة المختصين من أهل الموسيقى والغناء ومدرسة لطلاب هذا العلم وقبلة لآذان المتذوقين لفن، الغناء العربي ولما أكمل دراسته في المعهد الموسيقي إنصرف إلى تدريس الموسيقى ولم يكن ذلك هو الطموح بل كان يفكر كيف يصبح علما من اعلام الغناء العربي فهو أول من إكتشف مواهبه ولمس انه قادر على ان يحدث تجديدا في الساحة الغنائية العربية
كان هو وزميله كمال الطويل يفكران بأغنية يلحنها عبد الحليم ويغنيها كمال وكان يشجع أحدهما الآخر فكان كمال الطويل يرى في عبد الحليم موهبة الملحن ويفكر عبد الحليم بصوت كمال الطويل فهما لم يفترقا في يوم من الأيام أثناء الدراسة، كان عبدالحليم حافظ يستمع إلى عبد الوهاب فيدهش ويحفظ كل أغانيه ويرددها، وقصته مع الغناء طويلة والمهم انه كان يفكر بعكس ما كان يطرح في الساحة الغنائية كان يبحث عن جديد ويريد أن يرتقي بالغناء إلى أرقى مرتبة فكانت أغنية (صافيني مرة) التي لحنها محمد الموجي مع أسلوبها المختلف ورفض الجماهير لها من أول وهل
أصر عبدالحليم على الإستمرار في هذا النهج نهج التغيير وبدأ يغني وكان كمال الطويل هو الملحن، بدأ عبدالحليم حافظ يلفت الإنتباه إليه بصوته الرخيم وأدائه المتقن ذلك لأنه مطرب موهوب مثقف وعازف ماهر أخذ الموسيقى بالعلم ومنحه الله عقلية كبيرة أهلته أن يشق طريقه أمام الأصوات الكبيرة التي كانت تتواجد في الساحة الغنائية آنذاك، عاش عبدالحليم حافظ في زمان الأصوات الكبيرة فكما هو معروف ان الجماهير العربية تعلقت في عبد الوهاب وفريد الاطرش وعبد الغني السيد ومحمد أمين وكارم محمود
بالاضافة إلى أم كلثوم وأصوات نسائية عديدة وهكذا كان الطريق أمام عبدالحليم مليئا بالمطبات وان نجاحه لم يكن بالسهل ومع ذلك بدأ عبدالحليم بصياغة لآلته الثمينة التي بدأت تحتل مساحة كبيرة وتستقطب الجماهير وتستحوذ على مساحات غيرها من الأصوات، في نهاية الخمسينيات كان العندليب الأسمر قد أدى عشرات الأغاني لكبار الملحنين،
الموجي، الطويل، والشريف وفي مقدمتهم عبدالوهاب الذي وهبه ألحانا كبيرة رائعة وبدأت أمام إنتشار عبدالحليم حافظ الأصوات الأخرى تتراجع وتتخبط هنا وهناك لكي تستطيع إيقاف هذا الاعصار الوجداني الكبير الذي إمتلك الساحة الغنائية بصوته العذب
لم يكن عبد الحليم حافظ مطربا كباقي المطربين بل كان ظاهرة ادائية كبيرة ومعجزة غنائية واضحة وعقلية فنية متفردة، كان المهندس والقائد والمدير للورشة التي تضع فيها الأغنية ذلك لأنه أراد الإبداع في التجديد وليس التجديد فقط، كان يحترم الكاتب والملحن والموزع ويطلق إقتراحاته وما يراه مناسبا بأسلوب مؤدب متواضع
وكان كل هؤلاء يحترمون آراءه كان عبدالوهاب نفسه إذا عهد بلحن لعبد الحليم لا يحضر معه البروفا لأنه يعلم من هو عبدالحليم كان يدقق باسلوب مثالي في الجمل اللحنية والأدبية للأغنية وكانت خطواته بتؤده فارتقى السلم بالتدرج وليس بالقفز وكان الفارق بينه وبين معاصريه من المطربين كبيرا جدا بعد ان رفض الاسلوب الغنائي السائد في عصره
حفز عبدالحليم الكتاب والملحنين على التجديد مستخدما الايقاعات العالمية والآلات الغربية وكان كمال الطويل قد رفده بأغان خفيفة سريعة منحته الخصوصية وابعدته عن التقليد، تعامل عبد الحليم منذ بدايته مع اعلام الأدب والموسيقى يقول: فارس الإرتجال في الأغنية العربية عبدالرحمن الأبنودي ان عبدالحليم كان أخا وصديقا ومطربا وملحنا وقائدا وعازفا فقد كنت أخشى أن أقدم له نصا لمعرفتي بثقافته وعقليته الرائعة، وقد لازمه الأبنودي منذ بدايته وكان أول عمل بينهما كل ما أقول التوبة يابوي
واننا إذ نختار الأبنودي كواحد من الشعراء الذين عاصروا عبدالحليم حافظ ذلك لان مطربنا الكبير واسع وشامل وله مع كل كاتب وملحن حكاية طويلة فان الأنبدوي هو واحد من الذين عاشوا كرم عبدالحليم وإطلعوا على أخلاقه وثقافته وادراكه يقول الابنودي (كنا نجلس على مائدة عبدالحليم ونتسامر وكان بيته مفتوحا لكل المثقفين من أدباء وملحنين وعازفين وصحفيين وكانت المائدة معدة بأصناف الطعام الذي حرم منه عبدالحليم وكنا لا نرى إلا الغبطة والضحك
وقال لي في يوم أكتب لي أغنية قبل تناول الغذاء وستكون مكافأتك كبيرة جدا وأمر بإحضار الأوراق وبدأت أكتب وكانت أغنية أحضان الحبايب، فسّر بهذا عبد الحليم ولحنت في نفس الوقت وإستغرق إنجازها وقتا هو أقل من وقت بث الأغنية نفسها ومنحني مكافأة لم أستلم مثلها فيما بعد وفي يوم قلت لعبد الحليم وعلى نفس المائدة
(الهوى هوايه) فإستوقفني ضاحكا وقال لي هذا مطلع أغنية فقلت له أبنيلك قصر عالي وكنت كلما أضيف كان عبدالحليم يضحك وهو يقول أكتب فهذا قليل عليك أيها الشاعر وأنجزنا على هذا المنوال عددا كبيرا من الكوبليهات وكان بليغ يلحن في نفس الوقت بعقليته المعروفة وإكتملت الأغنية بدقائق وهكذا كانت أغلب الأغاني تخرج بصدق وعفوية وهذان سببان أساسيان لنجاح العمل الغنائي
وفي أيام مصر العصيبة عام 1967 كان عبدالحليم حافظ قد نسج قصة بطولية رائعة فقد تحول إلى مقاتل عنيد وجندي صامد يرمي العدو برصاصات قاتلة ويمنح الجندي العربي بطولة وشجاعة تضاف الى شجاعتة وأقدامه فقد حول دار الإذاعة الى ثكنة جندوها هو والأبنودي وكمال الطويل فحينما شعر بوقوع الحرب استدعاني من بلدي ابنود بالهاتف وهو يقول ( أين أنت يا عبد الرحمن مصر حتحارب) فركبت القطار إلى القاهرة
وكتبت له عددا كبيرا من الأناشيد الوطنية ودخلنا الإذاعة ومعي خمسة عشر نصا غنائيا وبدأ كمال الطويل بالتلحين وكان عبدالحليم يعيد تسجيل الأغنية الواحدة أربع مرات وكانت إذاعة القاهرة آنذاك تستخدم نظام الترك فكنت تسمع انشودة ( إبنك يقولك يا بطل) و اضرب وغيرها وكأنما هو كورال وكانت أناشيد عبدالحليم التي أمر الرئيس جمال عبد الناصر ببثها طوال اليوم تنزل كالصاعقة على رؤوس الصهاينة المجرمين
يكاد يكون عبدالحليم المطرب الوحيد الذي غنى الأناشيد الوطنية في حفلات جماهيرية فالكل يتذكر (يا أهلا بالمعارك) والكل يتذكر (على أرضها)، التي تتغنى بالقدس والتي احملتها الإذاعات المصرية (وصباح الخير يا سينا) وهي آخر ما كتب الأبنودي لعبد الحليم حافظ، ولعبد الحليم حافظ قصة طريفه في المغرب العربي فقد كان يقود وفدا كبيرا من كبار الفنانين بضمنهم عبدالوهاب للمساهمة بإحياء ذكرى العيد الوطني للمغرب حينما وقع الإنقلاب على الملك الحسن الثاني رحمه الله
وكان عبدالحليم وقتها بالإذاعة حينما اقتحم عليه بعض قادة الإنقلاب دار الإذاعة وطلبوا منه أن يقرأ بيان الثورة فرفض رفضا قاطعا وقال انا ضيف اكرمين الملك ولن أكون الا الى جانبه، وهرب زحفا إلى الفندق المخصص لإقامتهم وبعد فشل الإنقلاب عاد عبدالحليم حافظ بالوجه الأبيض إلى الملك الذي إحتضنه وعانقه وهو لم يعانق أحدا من قبل وقلده ارفع وسام مغربي لموقفه ومؤازرته وهو ضيف على بلده المغرب
أما عن السينما فقد سار عبدالحليم في ركب قدوته وأبوه الروحي عبد الوهاب فانتج أفلاما غنائية رائعة أضافت له مجدا ومنحته مساحة إضافية في قلوب محبيه فمن (الوسادة الخالية) إلى (أبي فوق الشجرة) مرورا بـ (أيامنا الحلوة) و (يوم من عمري) و (دليلة) و (معبودة الجماهير) و (لحن الوفاء) كان عبدالحليم يتألق ممثلا ومطربا وكانت أغانيه الإستعراضية تسير جنبا إلى جنب
مع أغانيه العاطفية كما كانت تلك الأغاني عاملا أساسيا في تحقيق نجاح عبد الحليم في السينما، وفي فلم الخطايا كان عبدالحليم بحاجة إلى أغنية عبد الوهاب (جئت لا أعلم من أين) لأنها إحدى الحلقات التي تصل أحداث الفيلم ببعضها فلم يتردد عبد الوهاب بمنحها إياه وكانت تلك الأغنية مفتاح خير أهلت عبدالحليم لأن يتناول أغاني عبد الوهاب وكان اداؤه لقصيدة لا تكذبي من أروع ما يمكن
حمل بعدها عبد الحليم راية الأغاني الطويلة (زي الهوى) (موعود) (مداح القمر) (دمعة حزن) (فاتت جنبنا) والختام بقارئة الفنجان التي صاحبتها أحداث اهمها هو ان محمد الموجي ملحن الأغنية قد أسكنه عبدالحليم فندقا بعيدا عن أهله وأصدقائه وطلب منه إنجاز الأغنية بشهر واحد فقط وبعد خمسة عشر يوما ذهب الموجي لكي يسمع عبد الحليم ما أنجز من الأغنية فلم يستطع ذلك بسبب انحباس صوته ولن يستطيع اخراجه فإندهش عبدالحليم من ذلك الأمر وحاول تدارك ما وقع للموجي فإستعان ببعض قراء النوتة الموسيقية وإستطاع بذكائه وخبرته أن يفهم اللحنه